Apr 24, 2025
نواف حاكم الركاد ، 24.04.2025
في سوريا الجديدة، التي خرجت من نفق الاستبداد الطويل والحرب الكارثية التي امتدت لأكثر من عقد، تغدو الحاجة إلى ترسيخ السلم الأهلي ضرورة وطنية عاجلة لا يمكن تأجيلها أو المساومة عليها؛ فالسلم الأهلي ليس مجرّد غياب للعنف، بل هو روح المجتمع الحي الذي تُبنى فيه العلاقات على الاحترام المتبادل، ويغدو فيه التنوع مصدر قوة لا باعثًا للريبة أو الخوف. فبقدر ما تنتشر ثقافة التسامح، والاعتراف بحق الآخرين في الاختلاف، وتُحترم كرامة الأفراد والجماعات، بقدر ما تتوطد أركان السلم الأهلي، وتُحصن البلاد من الانزلاق مجددًا إلى العنف والفوضى.
ومن هذا المنطلق، فإن الحادثة الأليمة التي وقعت في الساحل السوري في مارس/آذار 2025 تمثل تحديًا كبيرًا أمام السلم الأهلي، لا سيما وأنها حدثت في ظلّ الحكم الجديد. ورغم فداحة المجزرة، فإن استجابة الحكومة كانت على قدر الحدث، إذ سارعت إلى تشكيل لجنة تقصي حقائق مستقلة، وأعلنت التزامها بالمحاسبة الصارمة للجناة، بما يشكّل رسالة واضحة للمجتمع السوري والعالم بأن هذه الدولة الجديدة لا تتهاون مع الجرائم، أياً كان مرتكبوها.
يقول الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه: "من لا يستطيع أن يتذكر الماضي محكوم عليه أن يعيشه من جديد"، وهذه المقولة تصلح لأن تكون منطلقًا لسوريا الجديدة، إذ إن تجاوز الماضي لا يعني إنكاره أو طمسه، بل معالجته جذريًا من خلال المحاسبة وكشف الحقيقة، تمهيدًا لمصالحة وطنية تاريخية تعيد بناء الذاكرة الجمعية على أسس من العدل والإنصاف.
إن السلم الأهلي في سوريا الجديدة لا يمكن أن يُبنى دون مسارين متلازمين: أولهما، العدالة والمساءلة لكل من ارتكب انتهاكات جسيمة، وثانيهما، مشروع وطني جامع يقوم على إعادة بناء الثقة بين المكوّنات السورية، من عرب وكرد وسريان، ومن سنة وعلويين ودروز ومسيحيين، على أسس من الشراكة السياسية، والعدالة الاجتماعية، والتوزيع المتوازن للسلطة والثروة. وهنا لا بد من دور حاسم للدولة الجديدة في إدارة هذا التنوع بشكل عادل، وإنتاج خطاب وطني جامع يتجاوز الانقسامات الطائفية والعرقية.
وقد أثبتت تجارب دول عديدة، من جنوب أفريقيا بعد الأبارتايد، إلى رواندا بعد الإبادة الجماعية، أن المصالحة الوطنية الحقيقية لا تكون بمجرد كلمات بل تحتاج إلى إجراءات عملية تُشعر كل مكوّن بأنه شريك في الوطن، لا ضيفاً فيه أو متّهماً بشكل دائم. وفي هذا السياق، يجب أن تتحول مؤسسات الدولة السورية الجديدة إلى أدوات فعّالة في تعزيز هذه الثقة، بدءًا من التعليم الذي يجب أن يُراجع مناهجه جذريًا، مرورًا بالإعلام الذي يجب أن يُصبح منبرًا للوحدة لا للتحريض، وانتهاءً بالمجالس المحلية والمركزية التي يجب أن تُمثّل التنوع السوري بكل أبعاده.
وقد قال المفكر السوري ياسين الحافظ: "الديمقراطية هي الاتفاق على العيش المشترك رغم الاختلاف"، وهذه المقولة تختصر ما يحتاجه السوريون اليوم: عقد اجتماعي جديد يقوم على قبول الآخر المختلف، لا على إلغائه أو إخضاعه، عقد يُعيد تعريف الهوية الوطنية السورية بعيدًا عن الاستبداد والطائفية والعسكرة.
كما أن إعادة المهجرين والنازحين إلى مناطقهم الأصلية بشكل آمن وكريم، وضمان حقوق الملكية، والمساواة في الفرص، هي من أولى واجبات الحكومة الجديدة لضمان عودة الأمان النفسي والجغرافي إلى حياة السوريين. ولا يمكن تجاهل أهمية العامل الاقتصادي هنا، فالبطالة والفقر وسوء توزيع الثروات من أبرز محركات العنف الأهلي، لذا لا بد من سياسات اقتصادية عادلة تُنهي التهميش وتُعيد التوازن.
إن سوريا الجديدة مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بإثبات قدرتها على تحمّل الإرث الثقيل، لا عبر تجاهله، بل عبر تحويله إلى نقطة انطلاق نحو مستقبل أفضل. وكما قال نيلسون مانديلا: "السلام لا يعني غياب الصراعات، بل القدرة على التعامل معها بوسائل سلمية"، فإن بناء السلم الأهلي في سوريا يتطلب شجاعة سياسية، ونضجاً مجتمعياً، وإرادة حقيقية لدى الدولة ومؤسساتها.
في الختام، إن مشروع السلم الأهلي في سوريا ليس رفاهية فكرية، بل هو شرط لبقاء الدولة نفسها، وضمان لعدم الانزلاق مجددًا في دوّامة العنف والتفكك. وهو اختبار حقيقي لجدية الحكومة الجديدة، ولقوة إرادة السوريين في أن يكتبوا مستقبلهم بأيديهم، على أسس من العدالة والمساواة والكرامة.