العدالة الانتقالية في سوريا الجديدة: ضمان الاستقرار وتأسيس الشرعية

نواف حاكم الركاد ، 24.04.2025
في سوريا 2025، ومع طيّ صفحة أربعة عشر عامًا من الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها نظام الأسد، تُصبح العدالة الانتقالية ضرورة وجودية، لا مجرد مطلب حقوقي أو أخلاقي. فـتحقيق العدالة ليس فقط من أجل الضحايا وذويهم، بل هو الطريق الأسلم نحو الاستقرار السياسي والمجتمعي، وشرط أساسي لمنع تكرار الكوارث، وإنهاء دائرة العنف والانتقام، وترسيخ الثقة المتبادلة بين الدولة والمواطنين.
كما أشار الأستاذ المحامي عبدالرزاق حسين في أحد مقالاته القيّمة، فإن مفهوم العدالة الانتقالية لا يقتصر على محاكمة المجرمين، بل هو إطار واسع يشمل عدة مسارات متكاملة؛ من المحاسبة، إلى معرفة الحقيقة، والبحث عن المفقودين، مروراً بإصلاح المؤسسات، والتغيير الدستوري، وتعويض الضحايا، وصولاً إلى تخليد الذاكرة الجماعية. وهذا البرنامج المتكامل هو ما يضمن أن تتحول سوريا من دولة جريحة إلى دولة تتعافى بكرامة وعدالة.
تبدأ العدالة الانتقالية بالمحاسبة، وهي عنصر جوهري لبناء الثقة بين الشعب والحكومة الجديدة، إذ لا يمكن الحديث عن مصالحة حقيقية أو تسامح دون محاسبة واضحة للذين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية، سواء كانوا من كبار المسؤولين أو من الأجهزة الأمنية والعسكرية؛ وكما يقول الأستاذ عبدالرزاق حسين: "لا مسامحة بلا محاسبة".
أما معرفة الحقيقة، فتأتي كرافعة للوعي الجماعي، وركيزة لتوثيق ما جرى بكل تفاصيله المؤلمة، من أجل ضمان عدم تكراره. فـلجان الحقيقة لا تكتفي بتوثيق الضحايا، بل تسلط الضوء على السياقات السياسية والاجتماعية التي سمحت بوقوع هذه الفظائع، لتكون مرآة للمستقبل، وتساهم في صياغة وعي وطني جديد.
ومن الملفات الأكثر تعقيداً، تأتي قضية المفقودين والمختفين قسريًا، التي تُعد من أكثر الجراح إيلامًا، لكنها ضرورية لشفاء الجرح الوطني. إن آلاف العائلات السورية ما زالت تنتظر معرفة مصير أحبائها، وهذه المعرفة ليست فقط واجبًا أخلاقيًا، بل هي جزء لا يتجزأ من العدالة؛ وكما أوضح الأستاذ عبدالرزاق، فإن عملية البحث في المقابر الجماعية قد تستغرق عقودًا، لكنها واجب لا يسقط بالتقادم.
وفي ذات السياق، لا يمكن بناء دولة عادلة دون إصلاح جذري للمؤسسات التي تحوّلت خلال سنوات الاستبداد إلى أدوات قمع، إذ المطلوب هو إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والعسكرية والقضائية، بل وأحيانًا حلها واستبدالها بمؤسسات جديدة تخضع للمساءلة، وتعمل فعلياً لخدمة المواطنين.
ويوازي هذا الإصلاح المؤسسي، إصلاحٌ دستوري وتشريعي لا يقل أهمية، إذ أن بناء عقد اجتماعي جديد يتطلب دستوراً يكرّس إرادة الشعب، ويقطع مع منظومات الاستبداد، وينظّم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بأسلوب يحول دون إعادة إنتاج الماضي.
كذلك، فإن العدالة الانتقالية لا تكتمل دون تعويض الضحايا، مادياً ومعنوياً؛ ليس فقط لتخفيف الألم، بل لتأكيد مسؤولية الدولة أمام شعبها. ويجب أن يشمل هذا التعويض من فقدوا أحبّاءهم، ومن هُجّروا، ومن سُجنوا وعُذّبوا، ومن دُمّرت بيوتهم وأُهدرت حقوقهم.
ولا يقل عن ذلك أهمية، تخليد الذاكرة الجمعية، من خلال النُصُب التذكارية، وتسمية الشوارع بأسماء الشهداء، وإحياء ذكرى المجازر الكبرى في مناسبات وطنية. فالذاكرة الحيّة تُشكّل حصانة أخلاقية وتاريخية تمنع تكرار الكارثة، وتحفظ الوعي العام من التشويه أو النسيان.
إن العدالة الانتقالية ليست ترفًا فكريًا أو مطلبًا نخبوياً، بل هي حاجة وطنية تمس كيان الدولة والمجتمع. وتنفيذها بصدق وكفاءة سيمنح الحكومة الجديدة بقيادة أحمد الشرع شرعية شعبية ودولية قوية، ويُعزز من قدرتها على فرض الاستقرار، ونزع فتيل الانتقام، وفتح الباب لبناء دولة قائمة على العدل والمساواة.
وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى الجهود المهمّة التي يقدمها المحامي والناشط الحقوقي ميشال شمّاس عبر صفحاته ومنصاته الرقمية، حيث يسلّط الضوء بانتظام على أهمية العدالة الانتقالية، ويعرض تجارب دول أخرى مرّت بمآسٍ مشابهة، ما يجعل من آرائه مرجعية فكرية وقانونية متميزة ضمن النقاش السوري العام.
في الختام، فإن على الحكومة السورية الجديدة أن تُظهر التزامها الجاد ببرنامج العدالة الانتقالية، ليس فقط عبر التصريحات، بل من خلال سياسات واضحة، ومؤسسات مستقلة، وخطط عملية، لضمان عدم عودة الاستبداد بأي شكل من الأشكال. فالعدالة هي حجر الأساس الذي يُبنى عليه السلام المستدام والكرامة الوطنية.